الحلقة الفكرية والقراءة الجماعية..

الحلقة الفكرية والقراءة الجماعية

( مع جون ستيوارت مل)

في مدة قصيرة سابقة، قرأت في ترجمة الفيلسوف الكبير جون ستيوارت مل، في كتابين مهمين، أحدهما: ترجمته لنفسه، والذي نشرته دار التنوير، وترْجمه للعربية: الحارث النبهان ، وكتاب (رجال عاشوا ألف عام لجلال الشايب)،

وفي كلا الكاتبين تقف على أشياء مدهشة في سيرة الرجل ،، ولكني في هذه التدوينة القصيرة، سأتطرق إلى سبب واحد من أسباب تميز هذه الشخصية.

 -من أهم ما يميز ستيوارت مل أنه لم يسرْ في طريق التفرد المعرفي بمفرده. ففي أوائل عشرينياته، شكّل مع عدد من أصدقائه حلقة قراءة ونقاش منتظمة، اجتمعوا فيها كل أسبوعين لمناقشة كتب وفصول كاملة، يتناوبون على قراءتها والتعليق عليها ومراجعتها.

كانت هذه الحلقة أكثر من مجرد نادٍ ثقافي، بل ورشة فكرية مركّزة لإعادة تشكيل المفاهيم، وإنتاج المعرفة عبر القراءة والمناقشة وممارسة النقد والاعتراض بكل حرية.

هذه التجربة أتاحت لمل أن يرى القضايا من زوايا متعددة، وأن يطور أدواته التحليلية عبر جدل مستمر، وقد عبر بنفسه عن أهمية هذه اللقاءات بقوله:

“أجمل تاريخ هذه المناقشات تاريخا لتكريسي الحقيقي مفكرا مستقلا أصيلا.”

هؤلاء الفتية كانت عقولهم ترنو إلى الشيء المعرفي البعيد، فقد كانوا يناقشون كتبا اقتصادية كبرى مثل آليات الاقتصاد السياسي لوالده، ويستخرجون منها إشكاليات، ثم يعيدون بنائها عبر نقاشات موسعة، لا يتركون فيها شاردة ولا واردة دون تمحيص. وقد وصفوا هذه العملية بأنها لا تهدف فقط إلى فهم الأفكار، بل كما يقول ستيوارت مل: “تحليلها حتى النهاية”.  وهنا تقف على الهمّة الكبيرة والنظر البعيد حول اكتساب المعرفة مع أدواتها الخادمة لها.

يمكن القول إن هذه الحلقة النقاشية الشبابية ساهمت مباشرة في أمرين هامّين:

• تكوين الحس النقدي العالي لدى مل.
• تدريب مل على أسلوب كتابي (حواري)، أثمر فيما بعد.

والأهم من ذلك أن تفرده لم يكن منعزلا عن الآخرين، بل هو ثمرة التفاعل المستمر، والجدل البنّاء، والقراءة الجماعية، والاشتباك مع قضايا عصره. لقد أدرك أن النضج المعرفي لا يُصاغ داخل الكتب وحدها، بل في الحوار العميق مع الأنداد، وهو ما يجعل تجربته جديرة بأن تُعرض كنموذج في صناعة التفرد والفرادة المعرفية.

 وفي مقال قادم بإذن الله، نحلل شخصية أخرى، لنتعرف على شيء من أسباب التميّز والفرادة.