يقرأ من اليسار 2
- 7 مايو، 2025
يقرأ من اليسار (2)
كانت حلقتنا السابقة مجحفة جدا في الحديث عن علم كبير كالتوحيدي، وأظن أن القارئ خاب أمله حيث فوجئ بانتهاء التعريف بكتبه، كما كانت مفاجأته أيضا حين ظنّ انّه سيلتقط ” اللحظة الانتقالية”، لكن للأسف! لا هذه ولا تلك.
أما وقد شرعنا في هذه الحلقة الثانية، فلابد من إرضائك أيها القارئ، ولو بواحدة من الثنتين، ولربما اجتمعا معا.
فإن كنتُ قصّرتُ مع التوحيدي فلعلي لا أفعل هذه المرة مع المتنبي، وكيف يكون لي ذلك وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشُغل به الناس.
وكم تداولت الأقلام اسمه قديما وحديثا، وكُتب في مدحه أو ذمّه، أو أُجري بينه وبين خصومه وساطة، كما فعل الجرجاني في كتابه اللذيذ.
ولا عجب أن تجد من يحاول نقيصته بأي عمل، فقد قالوا: أشياء كثيرة عنه، ومنها: أنه كان يستجدي الأموال من الملوك والأمراء، لكنك إذا وقفت على تلك القصائد العالي، وجدت الحقيقة أنه كان لا يقبل مدح من لا يستحق منهم، ومسألة ادّعاء النبوة …… ولو أكملت مسيرتي في تعداد ما رموه به، لطال بنا المقام، ولكن نحن هنا في مقام إنصاف، ومن الإنصاف أن نبين كيف نال تلك المكانة في سماء العربية!
( هنا وقفة لابد منها لك ، لتستوثق من أن ” لحظتنا الانتقالية” لم تمرّ أعلاه .
حسنا .. كما تعلم فمن عادة الأشياء الثمينة أنها لا تُعطي من نفسها إلا مرة واحدة، والفائز بها فرد واحد، لكن جوهرتنا كريمة معطاءة، ربما تكررت أكثر من مرة ، ونالها أكثر من مبدع، بشرط التركيز ، فطبْ نفسا).
لابد لمن أراد أن يعرف المتنبي، أن يقرأ ما كُتب عنه، وتلك الكتب التي جمعت الحَسَن والقبيح، فالإنصاف والموازنة لا تكون إلا على هذه الجادة.
ولا يفوتنك كتاب علي الجرجاني “الوساطة بين المتنبي وخصومه” والذي فيه دافع عن المتنبي وحاول إنصافه ، خاصة بعد النقد اللاذع الذي قدمه الصاحب بن عباد في كتابه “الكشف عن مساوئ شعر المتنبي”، وقد أوفى الجرجاني على الغاية، وكان من بديع ما قال في توطئته : ( وما زلتُ أرى أهل الأدب – منذ ألحقتني الرغبةُ بجملتهم، ووصلَت العنايةُ بيني وبينهم – في أبي الطيب أحمد بنِ الحسين المتنبي فئتين: من مُطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحطّ في هواه بلسانه وقلبه، يلتقي مناقِبَه إذا ذُكِرت بالتعظيم، ويُشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويُعجَب ويعيد ويكرر، ويميل على من عابه بالزِّراية والتقصير، ويتناول من ينقصُه بالاستحقار والتجهيل؛ فإن عُثَر على بيت مختلّ النظام، أو نِبَه على لفظ ناقص عن التمام التزم من نُصرة خطئه، وتحسين زلَله ما يُزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر. وعائبٍ يروم إزالتَه عن رُتبته، فلم يسلّم له فضله، ويحاول حطّه عن منزلةٍ بوّأه إياها أدبُه؛ فهو يجتهدُ في إخفاء فضائله، وإظهار مَعايبه، وتتبع سقطاتِه، وإذاعة غَفلاته.).
وكانت أبلغ الدراسات المعاصرة عنه، ما سطّره شيخ العربية محمود شاكر في كتابه: ” المتنبي”
(سنمرر الثناء على دراسة شاكر ونؤكد عليها، حتى ولو يقبل حبيبنا الأديب د. عدي الحربش، وله في ذلك كلام وتأويل).
وقد أبان شاكر عن الجهد الذي بذله، والحيرة التي أصابته وهو يقرأ في كتب التراجم حول هذا الرجل .. قال رحمه الله : ( كنت أصطدم دائما فيها [يعني كتب التراجم] بما يبهرني ويحيّرني من الاختلاف الواضح بين صورة أبي الطيب التي تصورها هذه التراجم والكتب وبين صورته التي يصورها لي تذوّق شعره مجردا من تأثير هذه الأخبار التي رويت). وأفاض شاكر في الحديث عن سيرة الرجل ورحلاته وتنقلاته وأغراض شعره، والشخوص الذي دار عليهم غالب شعره، وعلاقته بأبي فراس، والكلام عن ادّعائه للنبوة، وما يقال عن علويّته. وكثيرٌ كثير من القضايا التي أشبعها بالبحث والتفصيل .
ومما يلفت النظر ثناءُ شاكر على موسوعية المتنبي وحذقه وتفننه في عدد من العلوم،
مستنبطا ذلك من أبياته، ومنها:
لَمّا وَجَدتُ دَواءَ دائي عِندَها هانَت عَلَيَّ صِفاتُ جالينوسا
بَشَرٌ تَصَوَّرَ غايَةً في آيَةٍ تَنفي الظُنونَ وَتُفسِدُ التَقِيّسا
و(جالينوسا) هنا هو الطبيب جالينوس، مما يدل على قراءة المتنبي في الطب، كما تدل لفظة (تفسد التقييسا) على شيء من الإشارة إلى علم الكلام .
قال شاكر: (كان هذا الفتى يمشي في نواحي الكوفة بآلامه وأحقاده وفقره، ويتنقل في حوانيت الورّاقين يقرأ ما يقع بين يديه من الكتب، ويختلف إلى مجالس الأئمة يستمع العربية والفقه والجدل) .. ربما قفز الجاحظ إلى ذهنك هنا!
وإذا تجاوزنا الحفاوة العربية، لنقف على حفاوة العجم والدنيا بمنْ شغلها!
فأنت واجد عددا من الباحثين والأدباء والروائيين قد اشتغلوا وانشغلوا به، وتزينت كتبهم بالحديث عن سيرته، والتقاط شيئا من شعره البديع.
وسأتجاوز المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير، الذي يلقب بالمفتون بالمتنبي، والذي قدم عنه أطروحة الدكتواره، بعنوان: (ديوان المتنبي في العالم العربي وعند المستشرقين) عام 1935. لأصل إلى الروائي العالمي صاحب البؤساء وأحدَب نوتردام ” فيكتور هيجو” في روايته الأولى في حياته والتي تحمل اسم (هان الآيسلندي) عام 1821م، حيث لم يُخل هذه الرواية من أبيات المتنبي الرائعة، ففي فصلها التاسع يذكر ستة أبيات لهذا الرجل، ليصعد سلّم مجده حاملا معه شيئا من بلاغة هذا الرجل؟!
وفيها البيت الشهير :لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
ومن الأبيات التي اختارها:
القاتل السيف في جسم القتيل به وللسيوف كما للناس آجال
تُغيرُ عنه على الغارات هيبته وماله بأقاصي الأرض إهمال
له من الوحش ما اختارت أسنته عير وهيق وخنساء وذيال
تمسي الضيوف مشهاة بعقوته كأن أوقاتها في الطيب آصال
تقري صوارمه الساعات عبط دم كأنما الساع نزال وقفال
-وفي الفصل الرابع والعشرين ، يورد بعض الأبيات، ومنها بيته الجميل :
ويزيدني غضبُ الأعادي قسوةٌ ويلم بي عتب الصديق فأجزع .
وبعد فعلاقتي بأبيات المتنبي قديمة، وقراءتي في كتاب شاكر عمّقت فيّ معرفة هذا العملاق ،، ثم كانت حلقة د عدي الحربش في “جولان” نقلة أخرى في تذوق فخامة معاني أبي الطيب، إذْ لم يوقفنا د.عدّي على تخوم الالفاظ والعبارات، بل جعلنا نغوص معه في المعاني، هناك في باطنها البعيد، حتى يصل بك الظن أن أبا الطيب ليس من أهل هذه الدنيا …
للحديث بقية ،، وللحظة موعدها، فلنرتقبها معًا!
شارك المدونة